الجمعة 6 شوال 1441هـ

الموافق 29 مايو 2020 م

الحمد لله ذي العرش المجيد؛ يحيي ويميت، ويبدي ويعيد، وهو فعال لما يريد، نحمده على جزيل عطائه، وعظيم مَنَّهِ، فقد أحسن بنا إذ مدّ في أعمارنا، ومتعنا بقواتنا، حتى بلغنا نهاية شهر رمضان، وأعاننا على صيامه وقيامه، فله الحمد لا نحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وسعت رحمته كل شيء فكتبها لعباده المؤمنين، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله؛ بشرنا وأنذرنا، وبلغنا دين ربنا، ونصح لنا، وأشفق علينا، فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه كانوا يستبقون إلى العمل الصالح استباق أهل الدنيا إلى دنياهم، وقد جعلوا زمانهم كله رمضان في طاعة الله تعالى واجتناب معصيته والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، والاعتبار بمرور الأيام، وانقضاء الشهور والأعوام؛ فما ذلكم والله إلا من أعمارنا، ولن نجد في قبورنا وآخرتنا إلا ما قدمنا في دنيانا (و مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ)

معاشر المسلمين: كنا في شهر رمضان، شهر الخير والبركة، نصوم نهارَه، ونقوم مِن ليله، ونتقرَّب إلى ربّنا بأنواع القُربات؛ طمعاً في ثوابه، وخوفًاً من عقابه، ثم انتهتْ تلك الأيَّامُ، وانقضتْ تلك الليالي، وكأنها طَيْف خيال.. لقد قطعنا بتلك الليالي والأيَّام مرحلةً من حياتنا لن تعودَ إلينا، وإنَّما يبقى لنا ما أودعناه فيها من خير أو شرٍّ، وهكذا كل أيَّام العمر، مراحل نقطعها يوماً بعدَ يوم، ونحن نسير في طريق الآخرة، فهي تَنقص من أعمارنا، وتُقرِّبنا مِن آجالنا.

تَمُرُّ بِنَا الأَيَّامُ تَتْرَى وَإِنَّمَا

نُسَاقُ إِلَى الآجَالِ وَالعَيْنُ تَنْظُرُ

فَلاَ عَائِدٌ ذَاكَ الشَّبَابُ الَّذِي مَضَى

وَلاَ زَائِلٌ ذَاكَ المَشِيبُ المُكَدِّرُ

لقدْ مضى شهرُ رمضانَ، وقلوبُ المسلمين على فراقه حزينة، مضى رمضان؛ ليكون شاهداً للمؤمن بطاعته، وصالِح عمله وعبادته وإحسانه، وشاهداً على المقصِّر بتقصيره وتفريطه، وغفلته وعصيانه، أحْسَنَ في رمضان أقوامٌ ففازوا وسبقوا، وأساء فيه آخرون فرجعوا بالخَيْبة والخسران.

أيُّها المسلمون: مَن كانت حالُه بعدَ رمضان أحسنَ من حاله منها قبله، مُقبِلاً على الخير، حريصاً على الطاعة، محافظاً على الصلوات، مفارقًا للمعاصي والسيئات، فهذه أمارةُ قَبول عمله إن شاء الله تعالى ومَن كانت حاله بعد رمضان كحاله قبلَها، فهو وإن أقبلَ على الله في رمضان، إلاَّ أنَّه سرعان ما نَكصَ على عقبه، ونقض ما أبرم مع ربِّه من عهود ومواثيق، فتراه يهجر الطاعات، ويُضيِّع الصلوات، ويتَّبع الشهوات، ولا يصون سمعَه وبصره وجوارحه عن المحرَّمات، فليعلمْ هذا وأمثالُه أن ربَّ الشهور واحد، وهو في كلِّ الأزمان مُطَّلِع على أعمال عباده ومشاهد.

أيها المؤمنون: إن كان رمضان قد انقضى بما أودع العباد فيه من أعمالهم، فإن الإنسان لا ينقضي عمله إلا بالموت، ويكتب عليه فيما بقي من عمره ما عمل من خير ومن شر؛ ولذا أمرنا ربنا جل جلاله بأن نجعل غاية سعينا الموت، فلا يوقفنا عن العمل الصالح إلا هو  (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ)

وأهل الإيمان يتزودون من الأعمال الصالحة، كما أن أهل الفجور والعصيان يكتب عليهم ما يعملون من سيئات، يقول رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم:(إذا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إلا من ثَلَاثَةٍ: إلا من صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له) فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الموت هو قاطع العمل، وليس انتهاء شهر رمضان كما يفعله كثير من الناس، يهجرون القرآن والصلوات والأعمال الصالحات بعد رمضان.

ولأجل أن عمل الإنسان لا ينقطع إلا بموته كان طول عمر المؤمن خيراً له لتزوده من الطاعات، واكتسابه الحسنات، فَكُرِه في حقه أن يتمنى الموت أو يدعو على نفسه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَتَمَنَّى أحدكم الْمَوْتَ ولا يَدْعُ بِهِ من قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إنه إذا مَاتَ أحدكم انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلا خَيْرًا)

ولكن كثيراً من المسلمين هداهم الله في غفلة عن هذه الأحاديث العظيمة، وما تحويه من معان جليلة، فلا يعرفون من نعمة بقائهم في الدنيا، ومَدِّ الله لهم في أعمارهم إلا أنهم بقوا للتمتع بالشهوات، وجمع الحطام، والتكاثر في الأموال والأولاد، والعمل للدنيا وهي تفنى، وهم عنها زائلون، مع تفريطهم في عمل الآخرة وهي تبقى، وهم فيها مخلدون؛ فاجتهدوا فيما كُفُوا، وغفلوا عما كُلِّفوا.

إن الله عز وجل لا تنفعه طاعتنا، ولا تضره معصيتنا، كيف؟ وهو الغني عنا، وقد قال سبحانه في الحديث القدسي (يا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) وهو سبحانه وتعالى غني عن تعذيبنا وإرهاقنا؛ ولذا اختار لنا من الدين أحكمه وأحسنه وأيسره، يقول تعالى: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ويقول: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)

ولم يكلفنا عز وجل من الأعمال ما لم نطق: دعاه المؤمنون فقالوا، (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، فقال سبحانه وتعالى: (قد فعلت) وقال نبيه عليه الصلاة والسلام: (يا أَيُّهَا الناس خُذُوا من الْأَعْمَالِ ما تُطِيقُونَ فإن اللَّهَ لَا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلى الله ما دَامَ وَإِنْ قَلَّ) وكما أنه عز وجل لم يعذب البشر في الدنيا إلا بما كسبت أيديهم، وما يعفو عنه أكثر مما يؤاخذهم به؛ فكذلك لا يعذبهم في الآخرة إلا بما اقترفوا، وما يتجاوز عنه أكثر مما يؤاخذ به، يقول تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً) ولذا كان سبحانه وتعالى شديد الفرح بتوبة من يتوب من عباده؛ لغناه عن تعذيبهم، وإرادته الخير والفلاح لهم في الدنيا والآخرة، يقول رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (للهُ أشَدُّ فَرَحاً بتوبة عبده حين يتُوبُ إليه مِنْ أحدِكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتَتْ منه، وعليها طعامُه وشرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظِلِّها، قد أيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال من شدَّة الفَرَح: اللهُمَّ أنت عَبْدي وأنا ربُّكَ، أخطأ من شدَّة الفَرَح) فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ من هذا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ) وهو سبحانه أرحم بعباده من أنفسهم، وأسرع إلى عباده إذا أقبلوا عليه من سرعتهم إليه، وقد كتب عز وجل أن رحمته تسبق غضبه، يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تَعَالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وأنا معه إذا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي في ملأ ذَكَرْتُهُ في ملأ خَيْرٍ منهم وَإِنْ تَقَرَّبَ إلي شبرا تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إليه بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) فلماذا لا نقبل على الله تعالى وهو يريدنا، ولماذا نَفِرُّ من عبادته بعد رمضان ولا مفرَّ لنا منه إلا إليه.

لقد أقبلنا عليه في رمضان بقلوبنا، واجتهدنا في أعمالنا، وحافظنا على صلواتنا، ولم تفارقنا مصاحفنا، ورأينا صلاحاً في قلوبنا، ووجدنا لذة عظيمة لم نجدها في أي شيء من متاع الدنيا، أتُرانا بعد رمضان نفارق ذلك، ونبتعد عنه، ونحن نعلم أن ربنا أسرع إلينا من سرعتنا إليه، ونحرم أنفسنا لذة عبادته وطاعته والانكسار بين يديه والافتقار إليه، ونحن الفقراء إليه وهو الغني عنا؟!

لقد أخبرَ صلى الله عليه وسلم أن للإيمان طعماً، وأن القلبَ يذوقُه كما يذوقُ اللسانُ طعمَ الطعام والشراب، فقال عليه الصلاة والسلام: (ذاقَ طعمَ الإيمان من رضِيَ بالله ربًّاً، وبالإسلام ديناً، وبمُحمَّدٍ رسولاً).

إن الإيمان له حلاوةٌ ولذَّة يسعَدُ بها القلب، وتطمئنُّ النفسُ، وتأنَسُ الروح. وبهذه اللذَّة يجنِي العبدُ الثمارَ الحقيقية، والسعادةَ الأبديَّة. بهذه اللذَّة يصلُحُ القلب ويُفلِحُ ويُسرُّ ويَطيبُ، ويطمئنُّ ويسكُن، ولو حصلَ له كلُّ ما يلتذُّ به من المخلوقات. لكل ملذوذٍ في الدنيا لذَّةٌ واحدةٌ ثم تزُول، إلا العبادة لله عز وجل ؛ فإن لها ثلاث لذَّات: إذا كنتَ فيها، وإذا تذكَّرتَ أنك أدَّيتَها، وإذا أُعطيتَ ثوابَها.

لذا كان عليه الصلاة والسلام يجِدُ راحةَ نفسه، وقُرَّة عينه في الصلاة، ويقول: (وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة). ويقول لبلال رضي الله عنه، ( أرحنا بها يا بلال)

وعن أم المؤمنين عائشة رَضي اللَّه عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ، لِمْ تصنعُ هَذَا يَا رسولَ اللَّهِ، وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً)

ومن تأمل حالنا، وقارنه بحال سلفنا الصالح عجب من ذلك؛ إذ نعجب بقليل عملنا، وتزهو نفوسنا، ولا نخاف الرد وعدم القبول. أما سلفنا الصلاح فمع كثرة عملهم، وشدة اجتهادهم يخافون من عدم القبول، لقد كانوا

يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمُّون بعد ذلك بقَبوله، ويخافون من رَدِّه، وهؤلاء هم الذين يُؤتُون ما آتَوْا وقلوبُهم وجلة، روي عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: (كونوا لقَبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ) وعن فضالة بن عبيد رحمه الله قال: لأن أكون أعلمُ أن الله قد تقبَّل مني مثقالَ حبَّة من خردل، أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ) وقال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ: أيقبل منهم أم لا؟ ولقد كانوا رحمهم الله يدْعون الله ستةَ أشهر أن يبلِّغهم رمضان، فإذا بلَّغهم إياه دعوه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وحقَّ فيهم وفي أمثالهم قول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)

ورضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم علمه بما يستحقه الرب جل جلاله وبما يليق أن يعامل به. فحذار يا عباد الله أن تغتروا بعملكم في رمضان، وتتركوا العمل بعده؛ فإن الطاعة المتقبلة تقود إلى الطاعة، كما أن المعصية تولد معصية أخرى. جعلنا الله تعالى من أهل الطاعة والاستقامة، وخلف علينا رمضان بخير، وتقبل منا الصيام والقيام.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرض والسماوات، ونشهد أن  نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه أفضلُ من سارعَ إلى الخيرات، واستقام على الطاعات، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقوى والصالحات.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن الاستقامة على العبادة دليلٌ على الرغبة في الخير، وعنوان قوة الإيمان، ولزومُ الطريق المستقيم، والثبات عليها في كل آن وحين، وإن كان المسلم في مواسم الخير يضاعف جهوده، لكنه لا ينقطع عن العبادة بعد ذلك، فإن استقامته على الطاعة يدل على قوة الإيمان وقوة اليقين.. فالاستقامة وسط بين الانحراف وبين الغلو في دين الله، يقول تعالى: (وَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) وهذا ما عليه الصالحون، يقول تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ) استقاموا على الطريق الواضح، والمنهج القويم…

أيها المسلم: إن كان رمضان مضى بخيره وبركته، نسأل الله أن يتقبله منَّا ومنكم، فليس معنى ذلك أن عبادة المسلم قد انقضت وتوقفت، لا، بل العبادة باقية، والمسلم سائر عليها، مستقيم عليها، قد أخذ من رمضان عظة وعبرة، فرمضان هذّبه، ورمضان أقام اعوجاجه، ورمضان هداه للخير، ورمضان روَّض تلك النفس، وأعدها الإعداد الصحيح لتكون سائرة على وفق منهج الصالحين…

أيها المسلم: ولئن كان موسم الخير تُضاعف فيه الأعمال، لكن لا يلزم من ذلك أن تنقطع عن العمل بعد رمضان، فكن محافظاً على طاعة الله من صلاة وصيام وصدقة وإحسان وتلاوة قرءان، وتقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعة، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ) فتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، واحرص على ذلك عسى أن تكون موفقًاً لقبول عملك، وإنَّ من علامة

قبول العمل الصالح أن يُتبَع بأعمال صالحة،يقول تعالى: (إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ) فأعقب العمل الصالح بالعمل الصالح، واحذر أن تعقبه بعمل سيئ، وفي الحديث في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (اتَّقِ اللهَ حيثُ ما كُنتَ وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسَنَةَ تمحُها وخالِقِ النَّاسَ بخلُقٍ حسنٍ)

أيها المسلم: يا من وفقك الله فصُمت رمضان كاملاً، وتلوت ما يسر الله لك من تلاوة القرءان، وقيام ما يسر الله لك من قيام ليله، فاحمد الله على هذه النعمة، واعلم أن نبيك صلى الله عليه وسلم قد سن لك وشرع أن تصوم ستة أيام من شوال، تتبع بها رمضان، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتَّــاً مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)  والأفضل أن تصام الستة متوالية خلال الشهر، فإن فرقها المسلم أو أخرها عن أوائل شوال أو عن وسطه إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة، لأنه يصدق أنه أتبعه ستًا من شوال. يقول أهل العلم: وإنما كان ذلك كصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين.

ومن كان مواظباً على صيامها في كل عام، فمرض أو سافر في العام الآخر فلم يصمها بسبب السفر أو المرض كتبت له فضلاً من الله ومنة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيماً صَحِيحاً). فلا تفوِّتوا رحمكم الله على أنفسكم هذه الفضيلة العظيمة، فإن أحدنا لا يدري هل يدرك رمضان مرة أخرى أو لا يدركه، وكلنا بحاجة إلى سد الخلل وما نقص من صيامنا بصيام التطوع… نسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح أعمالنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه على كل شيء قدير…

اللهم وفقنا جميعاً إلى عمل الصالحات، وجنبنا المعاصي والمحرمات، وثبتنا بالقول

الثابت في الحياة وعند الممات، اللهم تقبل منا صالح أعمالنا، وارزقنا الاستقامة على دينك في رمضان وفي غير رمضان يا رب العالمين.. اللهم اجعلنا من المداومين على الصالحات، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، اللهم اجعلنا من الأخيار الأبرار، اللهم ارزقنا العبادة، والاستمرار عليها وثبتنا عليها حتى الممات ياسميع الدعاء… اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا،واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين،  الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَرَئِيْسَ وُزَرَائِهِ خليفة بن سلمان وَوَلِيَّ عَهْدِهِ سلمان بن حمد  الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ..

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه وأجعل كيده في نحره وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء. اللهم ادفع وارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن والفتن، وسيء الأسقام والأمراض ما ظهر منها وما بطن،عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين وبلاد العالم أجمعين يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق العاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني في القطاع الصحي والعسكري والأمني والإعلامي والإداري والتطوعي، اللهم أَعِنْهم وانفع بهم، وبارك في جهودهم، وسدِّد رأيَهم وألهمهم الصوابَ والرشدَ، وأحفظهم من كل سوء ومكروه برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً وارفع البلاء عنهم.

اللهم حرر الأقصى من أيدي الغاصبين، وارزقنا فيه صلاة طيبة قبل الممات يا رب العالمين. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا واشف مرضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين..

اللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم،، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عظيم يا غفار، اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وإيتآء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

    خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين